غادر بورقيبة هذا العالم ولكن أبقى فيه أثرا لم تمحه
الأيام، وترك أمثولة حيّة لم ينطفىء بريقها. كان يغيب قليلا ثم يعود ليملأ حديث
الناس وجدالهم ، ويشحن بالأحاسيس المتناقضة ضمائرهم .
مات بورقيبة ، ولكن بعد وقت طويل من موته ما زال ظلّه
يحوم في سماء تونس، فاعلا في حاضرها ، مستعادا في ذاكرة أهلها ، فصلا هامّا في
سجلّ تاريخها ، ورهانا لاستشرافات مستقبلها. صار " أيقونة" حقيقية ونقطة
تجاذب بين التيارات المتعارضة، يستحضره كل طرف، ويستشهد به من يريد حسب زوايا
رؤيته، خاصّة عند طرح مشكلة النّمط المجتمعي المنشود.
لقد صرنا نرى أحزابا ومنظّمات وجمعيّات ومدارس فكرية
مختلفة تتبنّى افكار بورقيبة وترى في تراثه تجسيما لهويّتها ، أما بالنّسبة لبعض
الناشطين الآخرين – سياسيين كانوا أو مثقّفين- فسيظلّ بورقيبة أكثر من شوّه
الهويّة الوطنيّة ، وأصل كلّ المصائب التي حدثت لتونس ما بعد الاستقلال.
واليوم تشهد بلادنا حدثا هامّا يتوقّف عليه حاضرها
وتاريخها السياسي والثقافي والإيديولوجي ، وهو بصدد الإنجاز حاليا تحت أبصارنا
محفوفا بأزمات وصراعات قلّ أن عاشتها تونس،وربّما قد تعيش آثارها لسنوات عديدة .
إنّ استحضار بورقيبة في مثل هذا الوقت المخصوص يتطلّب
جهدا مضاعفا: الاستنجاد بالذّاكرة من ناحية ( ولحسن الحظّ ما زال بعض معاصري
الزّعيم أحياء) ، ومن ناحية أخرى استعمال البعد النّظري الذي تحتاجه كلّ قراءة
موضوعية. فمسيرة الرّجل الطويلة ، الكثيفة والمصطخبة تتداخل كليّا وتمتزج بأعسر فترات الكفاح الوطني ، وبناء
الجمهورية،وبالإصلاحات الجذريّة التي فرضها التحرّر والإصلاحات الاجتماعية (
المرأة، التعليم، إزالة الفوارق...).
ولكن مهما وصفت هذه الإنجازات بأنها
عظيمة وهامّة ، فإنها لا تستطيع أن تحجب عن الأنظار العنف السّلطوي الذي كان معمّما
في ذلك الوقت، ولا الرّدع القاسي الذي لقي كلّ معارض أو منشقّ سياسي أو نقابيّ.
قد يكون من مهمّة الباحثين والمفكّرين وسائر المثقّفين
مواصلة تفكيك الرواية الرسمية التي ارتسمت في الذّاكرة الجماعيّة ، وهي مهمّة
تاريخية واجب عليهم أداؤها ، رغم أنّ
تنفيذها غير يسير وهدفها صعب المنال ، لأنّ من طبع الأساطير الاستعصاء عن المحو
أوالمراجعة طالما هي تتغذّى من المخيال العامّ ، ويزيدها رسوخا استنكار الناس
لحاضرهم ونفورهم منه.
إننا إذ نعود إلى التاريخ فلمساءلة المراجع الكثيرة التي يملكها أعوان بورقيبة
ومعاصروه ، ولكن أيضا لاكتشاف التفاصيل الدّقيقة المختفية إلى اليوم من حياة هذه
الشخصية التي غطّى وجودها قرنا كاملا وأثّر فيه.
وإننا إذ نضع على محكّ النّظر والتّمحيص بورقيبة
الماضي والحاضر ، فذلك محاولة للإحاطة بفكر رجل –ء الدّولة، وأيضا لتخليص التّشابك الملغز الحاصل من اختلاط الفكر البورقيبي بالأنموذج مهما تضاربت الآراء حوله – ظلّ
حاضرا بقوّة من خلال مآثره ومنجزاته قبل الاستقلال وأثناء بناالذي أفرزه
ونتج عنه.